فصل: مطلب فِي مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب فِي مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ

وَأَضْعَفُهُ بِالْقَلْبِ ثُمَّ لِسَانِهِ وَأَقْوَاهُ إنْكَارُ الْفَتَى الْجَلْدِ بِالْيَدِ ‏(‏وَأَضْعَفُهُ‏)‏ أَيْ أَضْعَفُ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ يَكُونُ ‏(‏بِالْقَلْبِ‏)‏ دُونَ اللِّسَانِ وَالْيَدِ فَإِنْ قِيلَ أَيُّ تَغْيِيرٍ حَصَلَ بِإِنْكَارِ الْقَلْبِ‏؟‏ فَالْجَوَابُ الْمُرَادُ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ وَلَا يَرْضَاهُ ‏,‏ وَيَشْتَغِلَ بِذِكْرِ مَوْلَاهُ ‏,‏ جَلَّ شَأْنُهُ ‏,‏ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ ‏.‏

وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَامِلِينَ بِذَلِكَ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِنْعَامًا ‏,‏ فَقَالَ ‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا‏}‏ فَإِذَا كَرِهَ الْمُؤْمِنُ الْمُنْكَرَ وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِهِ لَغَيَّرَهُ كَانَ فِي قُوَّةِ تَغْيِيرِهِ لَهُ ‏,‏ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ إيجَابُ عَيْنِ كَرَاهَةِ مَا كَرِهَهُ مَوْلَاهُ وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ‏.‏

وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ ‏"‏ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ‏"‏ وَ ‏"‏ الدِّينُ النَّصِيحَةُ ‏"‏ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ أَرْقَى مِنْ الْإِنْكَارِ بِالْقَلْبِ فَقَطْ الْإِنْكَارُ بِ ‏(‏لِسَانِهِ‏)‏ أَيْ أَنْ يُنْكِرَ الْمُنْكَرَ بِلِسَانِهِ بِأَنْ يَصِيحَ عَلَيْهِمْ فَيَتْرُكُونَهُ أَوْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُغَيِّرُهُ ‏(‏وَأَقْوَاهُ‏)‏ أَيْ أَقْوَى مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ ‏(‏إنْكَارُ الْفَتَى‏)‏ أَيْ الشَّخْصِ الْمُؤْمِنِ ‏(‏الْجَلْدِ‏)‏ بِسُكُونِ اللَّامِ أَيْ الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ ‏,‏ وَيُقَالُ لَهُ جَلِيدٌ ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ ‏"‏ كَانَ أَجْوَفَ جَلِيدًا ‏"‏ أَيْ قَوِيًّا شَدِيدًا ‏,‏ فَهُوَ صِفَةٌ لِلْفَتَى ‏(‏بِالْيَدِ‏)‏ مُتَعَلِّقٌ بِإِنْكَارِ الْفَتَى ‏,‏ وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ‏,‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ‏,‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ‏,‏ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ‏"‏ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ‏.‏

وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ قَبْلِي إلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ‏,‏ ثُمَّ إنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏,‏ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يَقُولُونَ ‏,‏ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ‏,‏ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ‏,‏ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ‏,‏ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَرْفُوعًا ‏"‏ يُوشِكُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ تَهْلَكَ إلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ ‏,‏ رَجُلٌ أَنْكَرَ بِيَدِهِ وَبِلِسَانِهِ وَبِقَلْبِهِ ‏,‏ فَإِنْ جَبُنَ بِيَدِهِ فَبِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ ‏,‏ فَإِنْ جَبُنَ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ فَبِقَلْبِهِ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَرْفُوعًا ‏"‏ سَتَكُونُ بَعْدِي فِتَنٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُؤْمِنُ فِيهَا أَنْ يُغَيِّرَ بِيَدٍ وَلَا بِلِسَانٍ ‏.‏

قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ ذَلِكَ‏؟‏ قَالَ يُنْكِرُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ ‏.‏

قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يُنْقِصُ ذَلِكَ إيمَانَهُمْ شَيْئًا‏؟‏ قَالَ لَا إلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْقَطْرُ مِنْ الصَّفَا ‏"‏ وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مَرْفُوعًا ‏.‏

فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَنَحْوُهَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ‏,‏ وَأَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ لَا بُدَّ مِنْهُ ‏,‏ فَمَنْ لَمْ يُنْكِرْ قَلْبُهُ الْمُنْكَرَ دَلَّ عَلَى ذَهَابِ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ ‏,‏ وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ‏"‏ إنَّ أَوَّلَ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ ‏,‏ ثُمَّ الْجِهَادُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ‏,‏ ثُمَّ الْجِهَادُ بِقُلُوبِكُمْ ‏,‏ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَلْبُهُ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرْ قَلْبُهُ الْمُنْكَرَ نُكِسَ فَجَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ ‏"‏ ‏.‏

وَسَمِعَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه رَجُلًا يَقُولُ هَلَكَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ ‏.‏

فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ ‏.‏

يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ ‏,‏ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ هَلَكَ ‏.‏

وَأَمَّا الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ ‏.‏

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ الْعُرْسِ بْنِ عُمَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ إذَا عُمِلَتْ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا كَمَنْ غَابَ عَنْهَا ‏,‏ وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا ‏"‏ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ‏:‏ فَمَنْ شَهِدَ الْخَطِيئَةَ فَكَرِهَهَا بِقَلْبِهِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا إذَا عَجَزَ عَنْ إنْكَارِهَا بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ ‏,‏ وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا وَقَدَرَ عَلَى إنْكَارِهَا وَلَمْ يُنْكِرْهَا ‏,‏ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْخَطَايَا مِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَفُوتُ بِهِ إنْكَارُ الْخَطِيئَةِ بِالْقَلْبِ وَهُوَ مَرَضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ ‏.‏

فَأَفْهَمَنَا كَلَامُهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِي عَلَى مَا أَسْلَفْنَا بِأَنَّ مُرَادَهُمْ الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ اللَّذَيْنِ يَحْصُلُ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا ‏,‏ وَأَمَّا الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ‏.‏

وَهَذِهِ فَائِدَةٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ حَضَرَ مَعْصِيَةً فَكَرِهَهَا فَكَأَنَّهُ غَابَ عَنْهَا ‏,‏ وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَأَحَبَّهَا فَكَأَنَّهُ حَضَرَهَا ‏"‏ وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ‏:‏ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ حَالٍ ‏.‏

فَهَذَا صَرِيحٌ مِنْهُ بِمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ ‏,‏ وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِ إنْكَارُ مَا يُغْضِبُ الْجَبَّارَ جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ ‏.‏

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ مَا مَنَعَك إذْ رَأَيْت الْمُنْكَرَ أَنْ تُنْكِرَهُ ‏.‏

فَإِذَا لَقَّنَ اللَّهُ عَبْدًا حُجَّتَهُ قَالَ يَا رَبِّ رَجَوْتُك وَفَرَقْت النَّاسَ ‏"‏ ‏.‏

وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فَيَقُولُ اللَّهُ مَا مَنَعَك أَنْ تَقُولَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولَ خَشْيَةُ النَّاسِ فَيَقُولُ إيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى ‏"‏ ‏.‏

وَمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إذَا عَلِمَهُ ‏"‏ وَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ وَقَالَ قَدْ وَاَللَّهِ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا ‏.‏

وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَزَادَ فِيهِ ‏"‏ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجْلٍ وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يُقَالَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ ‏"‏ فَمَحْمُولَاتٌ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ لَهُ مِنْ الْإِنْكَارِ مُجَرَّدُ الْهَيْبَةِ دُونَ الْخَوْفِ الْمُسْقِطِ لِلْإِنْكَارِ ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ‏:‏ مُرَادُهُ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ يَعْنِي فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ ‏"‏ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ ‏"‏ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ ‏,‏ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ‏,‏ وَلِهَذَا قَالَ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ ‏,‏ فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ ‏,‏ فَكُلٌّ مِنْهُمْ فَعَلَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ‏.‏

قَالَ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ‏.‏ انْتَهَى كَلَامُهُ ‏.‏

وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ‏:‏ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه‏:‏ كَيْفَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ‏؟‏ قَالَ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ وَهُوَ أَضْعَفُ ‏.‏

قُلْت‏:‏ كَيْفَ بِالْيَدِ‏؟‏ قَالَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ ‏.‏

وَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَرَّ عَلَى صِبْيَانِ الْكُتَّابِ يَقْتَتِلُونَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ ‏.‏

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ‏:‏ التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ لَيْسَ بِالسَّيْفِ وَالسِّلَاحِ ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي‏:‏ وَظَاهِرُ هَذَا جَوَازُ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ ‏,‏ وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَرَكَ مَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ بِلَا عُذْرٍ ‏.‏

زَادَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ‏:‏ بِلَا عُذْرٍ ظَاهِرٍ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ الْمَطْلُوبَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ‏.‏

وَلَا يُنْكِرُ سَيْفٌ إلَّا مَعَ سُلْطَانٍ ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ الضَّرْبُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ إشْهَارُ سِلَاحٍ أَوْ سَيْفٍ يَجُوزُ لِلْآحَادِ بِشَرْطِ الضَّرُورَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ ‏,‏ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى أَعْوَانٍ يُشْهِرُونَ السِّلَاحَ فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِ السُّلْطَانِ عَلَى الصَّحِيحِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْفِتَنِ وَهَيَجَانِ الْفَسَادِ وَالْمِحَنِ ‏.‏

‏(‏تَنْبِيهَاتٌ‏:‏ الْأَوَّلُ‏)‏ اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ تَارَةً يُحْمَلُ عَلَيْهِ رَجَاءَ ثَوَابِهِ وَتَارَةً خَوْفَ الْعِقَابِ فِي تَرْكِهِ ‏,‏ وَتَارَةً الْغَضَبُ لِلَّهِ عَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ ‏,‏ وَتَارَةً النَّصِيحَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالرَّحْمَةُ لَهُمْ وَرَجَاءَ إنْقَاذِهِمْ مِمَّا أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِغَضَبِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ‏,‏ وَتَارَةً يُحْمَلُ عَلَيْهِ إجْلَالُ اللَّهِ وَإِعْظَامُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى ‏,‏ وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى ‏,‏ وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ ‏,‏ وَأَنْ يُفْتَدَى مِنْ انْتِهَاك مَحَارِمِهِ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ وَدِدْت أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ أَطَاعُوا اللَّهَ وَأَنَّ لَحْمِي قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ وَتَقَدَّمَ ‏.‏

فَمَنْ لَحَظَ هَذَا الْمَقَامَ ‏,‏ هَانَ عَلَيْهِ مَا يَلْقَى مِنْ الْآلَامِ ‏,‏ وَرُبَّمَا دَعَا لِمَنْ آذَاهُ ‏,‏ لِكَوْنِ ذَلِكَ فِي اللَّهِ ‏,‏ كَمَا دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ ‏"‏ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏"‏ ‏.‏

قِصَّةُ الْإِمَامِ شَمْسِ الدِّينِ مَعَ تَيْمُورَ قُلْت‏:‏ قَدْ سَنَحَ فِي خَلَدِي أَنْ أَذْكُرَ هُنَا قِصَّةً صَدَرَتْ مِنْ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ الْهُمَامِ شَمْسِ الدِّينِ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي إسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ بْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ مُفْلِحٍ الرَّامِينِيِّ الْأَصْلِ ثُمَّ الدِّمَشْقِيِّ وَلَدِ صَاحِبِ الْفُرُوعِ ‏,‏ وَذَلِكَ أَنَّ تَيْمُورَ كَوْرُكَانَ وَيُقَالُ لَهُ ‏(‏تَيْمُورْلَنْكْ‏)‏ لَمَّا فَعَلَ بِالشَّامِ وَأَهْلِهَا مَا فَعَلَ ‏,‏ وَعَمَّ بِظُلْمِهِ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ وَالسَّهْلَ وَالْجَبَلَ ‏,‏ وَكَانَ قَدْ طَلَبَ الصُّلْحَ ‏,‏ وَاجْتَمَعَ بِهِ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرَ الْحِلْمَ وَالصَّفْحَ ‏,‏ وَكَانَ عَبْدُ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيُّ إمَامَهُ ‏.‏

وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُ زِمَامَهُ ‏,‏ يُنَاظِرُ عُلَمَاءَ السُّنَّةِ بِحَضْرَةِ تَيْمُورَ ‏.‏

وَلَا يُمَكِّنُهُمْ الْجَوَابَ عَنْ أَكْثَرِ الْأُمُورِ ‏.‏

فَطَلَبَ مِنْ الْعُلَمَاءِ كِتَابَةَ سُؤَالٍ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْإِنْكَارِ وَالضَّلَالِ وَهُوَ أَنْ يَكْتُبُوا وَيَخْتِمُوا الْكِتَابَ ‏,‏ بِأَنَّ فَضِيلَةَ النَّسَبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ بِلَا ارْتِيَابٍ ‏,‏ فَتَقَاعَسُوا وَأَحْجَمُوا ‏,‏ وَعَلَى الْجَوَابِ وَجَمُوا ‏,‏ وَعَلِمَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدْ اُبْتُلِيَ ‏,‏ فَابْتَدَرَ بِالْجَوَابِ الْإِمَامُ شَمْسُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ فَقَالَ‏:‏ دَرَجَةُ الْعِلْمِ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ النَّسَبِ ‏,‏ وَمَرْتَبَتُهَا عِنْدَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَسْنَى الرُّتَبِ ‏,‏ وَالْهَجِينُ الْفَاضِلُ يُقَدَّمُ عَلَى الْهَجَّانِ الْجَاهِلِ ‏,‏ وَالدَّلِيلُ فِي هَذَا جَلِيٌّ ‏.‏

وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عَلِيٍّ ‏,‏ وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُهُمْ ‏.‏

وَأَثْبَتُهُمْ قَدَمًا فِي الْإِسْلَامِ وَأَقْدَمُهُمْ ‏,‏ وَإِثْبَاتُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ ‏,‏ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ ‏"‏ لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ‏"‏ ‏.‏

ثُمَّ أَخَذَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ فِي نَزْعِ ثِيَابِهِ ‏,‏ مُصِيخًا لتيمور وَمَا يَصْدُرُ مِنْ جَوَابِهِ ‏,‏ فَفَكَّك أَزْرَارَهُ ‏,‏ وَقَالَ لِنَفْسِهِ إنَّمَا أَنْتَ إعَارَةٌ ‏.‏

وَكَأْسُ الْمَوْتِ لَا بُدَّ مِنْ شُرْبِهَا ‏,‏ فَسَوَاءٌ مَا بَيْنَ بُعْدِهَا وَقُرْبِهَا ‏,‏ وَالْمَوْتُ عَلَى الشَّهَادَةِ ‏,‏ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ ‏,‏ وَأَفْضَلِ أَحْوَالِهَا لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إلَى اللَّهِ صَائِرٌ ‏,‏ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ‏.‏

فَقَالَ لَهُ تَيْمُورُ مَا حَمَلَك عَلَى نَزْعِ ثِيَابِك‏؟‏ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ بَذْلًا لِنَفْسِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا لِعِقَابِك ‏.‏

فَقَالَ لَهُ قَدْ وَسِعَك حِلْمُنَا ‏.‏

فَلَا تُعْدَمُ سِلْمَنَا ‏.‏

فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا السُّلْطَانُ الْجَلِيلُ‏:‏ حَيْثُ مَنَنْت بِالْحِلْمِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الذَّلِيلِ ‏,‏ فَلْيَكُنْ الْأَمَانُ مَصْحُوبًا بِالتَّفْضِيلِ ‏,‏ مِنْ صَوْلَةِ بَعْضِ الْعَسْكَرِ الَّذِي عِدَّةُ مِلَلِهِ تَفُوقُ عَلَى أُمَمِ بَنِي إسْرَائِيلَ ‏.‏

فَفِيهِمْ مَنْ ابْتَدَعُوا بِدَعًا ‏,‏ وَقَطَعُوا فِي مَذَاهِبِهِمْ قَطْعًا ‏,‏ وَمَزَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ‏.‏

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَجَالِسَ حَضْرَتِك تُنْقَلُ ‏,‏ وَتَخُصُّ فِي سَرَيَانِهَا وَتَشْمَلُ ‏,‏ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْجَوَابُ عَنِّي ‏,‏ وَوَعَاهُ أَحَدٌ عَنْ سِنِّي خُصُوصًا مَنْ ادَّعَى مُوَالَاةَ عَلِيٍّ ‏,‏ وَيُسَمَّى فِي رَفْضِهِ مَنْ وَالَى أَبَا بَكْرٍ بالناصبي ‏,‏ وَتَحَقَّقَ مِنِّي يَقِينِي ‏,‏ وَأَنَّهُ لَا نَاصِرَ لِي يَقِينِي ‏,‏ فَإِنَّهُ يَقْتُلُنِي جِهَارًا ‏,‏ وَيُرِيقُ دَمِي نَهَارًا ‏.‏

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَنَا أَسْتَعِدُّ لِهَذِهِ السَّعَادَةِ ‏,‏ وَأَخْتِمُ أَحْكَامَ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ ‏.‏

فَقَالَ لَهُ تَيْمُورُ‏:‏ لِلَّهِ دَرُّك مَا أَفْصَحَك ‏,‏ وَأَنْصَرَك لِمَقَالَتِك ‏,‏ وَأَنْصَحَك ‏,‏ فَأَمَرَ بِجَمَاعَةٍ يُشَيِّعُونَهُ ‏,‏ وَيَحْرُسُونَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ فِي ذَهَابِهِ لِدَارِهِ وَيَحْفَظُونَهُ فَأَحَاطَتْ بِهِ الْجُنْدُ إحَاطَةَ الْهَالَةِ بِالْقَمَرِ ‏,‏ وَصَارُوا حَوْلَهُ كَالسُّوَرِ حَوْلَ الْمِسْوَرِ ‏.‏

وَمَعَ هَذَا فَقَدْ وَكَزَهُ بَعْضُ الطَّغَامِ ‏,‏ مِنْ تِلْكَ الْعَسَاكِرِ الرَّعَاعِ الغشام ‏,‏ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ السَّعَادَةِ ‏.‏

فَجَرَى مَا جَرَى وَخَتَمَ اللَّهُ عَمَلَهُ بِالشَّهَادَةِ ‏,‏ وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ ابْنُ عَرَبْ شَاهْ فِي تَارِيخِ تَيْمُورَ ‏,‏ وَالشَّيْخُ الْعَلِيمِيِّ فِي الْمَقْصَدِ الْأَحْمَدِ ‏,‏ تَرَاجِمِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد ‏.‏

رضوان الله عليهم أجمعين ‏.‏

وَلَمَّا وَعَظَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْخَلِيفَةَ ‏(‏الْمُسْتَضِيءَ بِأَمْرِ اللَّهِ‏)‏ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ قَالَ لَهُ رحمه الله تعالى‏:‏ لَوْ أَنِّي مَثُلْت بَيْنَ يَدَيْ السدة الشَّرِيفَةِ لَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ كُنْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مَعَ حَاجَتِك إلَيْهِ كَمَا كَانَ لَك مَعَ غِنَاهُ عَنْك أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدًا فَوْقَك ‏,‏ فَلَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَشْكَرَ لَهُ مِنْك ‏.‏

فَتَصَدَّقْ بِصَدَقَاتٍ وَأَطْلِقْ مَحْبُوسِينَ ‏.‏

وَوَعَظَ أَيْضًا فِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْخَلِيفَةُ حَاضِرٌ فَبَالَغَ فِي وَعْظِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا حَكَاهُ لَهُ أَنَّ الرَّشِيدَ قَالَ لِشَيْبَانَ عِظْنِي ‏,‏ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَأَنْ تَصْحَبَ مَنْ يُخَوِّفُك حَتَّى تُدْرِكَ الْأَمْنَ ‏,‏ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَصْحَبَ مَنْ يُؤَمِّنُك حَتَّى تُدْرِكَ الْخَوْفَ ‏,‏ قَالَ فَسِّرْ لِي هَذَا ‏,‏ قَالَ مَنْ يَقُولُ لَك أَنْتَ مَسْئُولٌ عَنْ الرَّعِيَّةِ فَاتَّقِ اللَّهَ أَنْصَحُ لَك مِمَّنْ يَقُولُ لَك أَنْتُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مَغْفُورٌ لَكُمْ ‏,‏ وَأَنْتُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ نَبِيِّكُمْ ‏,‏ فَبَكَى الرَّشِيدُ حَتَّى رَحِمَهُ مَنْ حَوْلَهُ ‏.‏

فَقُلْت لَهُ فِي كَلَامِي‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنْ تَكَلَّمْت خِفْت مِنْك ‏,‏ وَإِنْ سَكَتُّ خِفْت عَلَيْك ‏,‏ وَأَنَا أُقَدِّمُ خَوْفِي عَلَيْك عَلَى خَوْفِي مِنْك ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَفِي ‏(‏مُثِيرُ الْعَزْمِ السَّاكِنِ ‏,‏ إلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ‏)‏ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ ‏,‏ أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَعَظَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ ‏,‏ قَالَ سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ‏:‏ كُنْت بِمَكَّةَ فِي زُقَاقِ الشطوي وَإِلَى جَنْبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ وَقَدْ حَجَّ هَارُونُ الرَّشِيدُ ‏,‏ فَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ يَا عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْعَى ‏,‏ قَدْ أُخْلِيَ لَهُ الْمَسْعَى ‏,‏ قَالَ الْعُمَرِيُّ لِلرَّجُلِ لَا جَزَاك اللَّهُ عَنِّي خَيْرًا كَلَّفْتنِي أَمْرًا كُنْت عَنْهُ غَنِيًّا ‏.‏

ثُمَّ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ وَقَامَ فَتَبِعْته فَأَقْبَلَ هَارُونُ الرَّشِيدُ مِنْ الْمَرْوَةِ يُرِيدُ الصَّفَا ‏,‏ فَصَاحَ بِهِ يَا هَارُونُ ‏,‏ فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ قَالَ لَبَّيْكَ يَا عَمِّ ‏,‏ قَالَ ارْقَ الصَّفَا ‏,‏ فَلَمَّا رَقِيَهُ قَالَ ارْمِ بِطَرَفِك إلَى الْبَيْتِ ‏,‏ قَالَ قَدْ فَعَلْت ‏,‏ قَالَ كَمْ هُمْ‏؟‏ قَالَ وَمَنْ يُحْصِيهِمْ‏؟‏ قَالَ فَكَمْ فِي النَّاسِ مِثْلُهُمْ‏؟‏ قَالَ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ ‏.‏

قَالَ اعْلَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسْأَلُ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَنْتَ وَحْدَك مَسْئُولٌ عَنْ الْجَمِيعِ ‏,‏ فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ ‏.‏

قَالَ فَبَكَى هَارُونُ وَجَلَسَ ‏,‏ وَجَعَلُوا يُعْطُونَهُ مِنْدِيلًا مِنْدِيلًا لِلدُّمُوعِ ‏.‏

قَالَ الْعُمَرِيُّ‏:‏ وَأُخْرَى أَقُولُهَا ‏,‏ قَالَ قُلْ يَا عَمِّ ‏,‏ قَالَ وَاَللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ لَيُسْرِعُ فِي مَالِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ‏,‏ فَكَيْفَ بِمَنْ أَسْرَعَ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ‏,‏ ثُمَّ مَضَى وَهَارُونُ يَبْكِي ‏.‏

وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ كَانَ يَقُولُ‏:‏ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّ الْحَجَّ كُلَّ سَنَةٍ مَا يَمْنَعُنِي إلَّا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ ثَمَّ يُسْمِعُنِي مَا أَكْرَهُ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَإِلَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَشَارَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى بِقَوْلِهِ‏:‏

 مطلب فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الصِّبْيَانِ لِتَأْدِيبِهِمْ

وَأَنْكِرْ عَلَى الصِّبْيَانِ كُلَّ مُحَرَّمٍ لِتَأْدِيبِهِمْ وَالْعِلْمِ فِي الشَّرْعِ لَرَدِي ‏(‏وَأَنْكِرْ‏)‏ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ الْمُتَّبِعُ الْأَوَامِرَ الشَّرْعِيَّةَ ‏,‏ الْعَالِمُ بِأَحْكَامِهَا الْفَرْعِيَّةِ ‏.‏

‏(‏عَلَى الصِّبْيَانِ‏)‏ جَمْعُ صَبِيٍّ هُوَ الصَّغِيرُ أَعْنِي الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ التَّكْلِيفِ ‏,‏ هَذَا مُرَادُهُ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ الصَّبِيُّ مَنْ لَمْ يُفْطَمْ ‏.‏

وَقَالَ فِي كِتَابِ كِفَايَةِ الْمُتَحَفِّظِ‏:‏ الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَهُوَ جَنِينٌ فَإِذَا وُلِدَ يُسَمَّى صَبِيًّا ‏,‏ فَإِذَا فُطِمَ يُسَمَّى غُلَامًا إلَى سَبْعِ سِنِينَ ‏,‏ ثُمَّ يَصِيرُ يَافِعًا إلَى عَشْرٍ ‏,‏ ثُمَّ حُزُورًا إلَى خَمْسَةَ عَشْرَ ‏,‏ ثُمَّ يَصِيرُ قَمْدًا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ ‏.‏

فَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصَّبِيَّ مَنْ لَمْ يُفْطَمْ بَعْدُ ‏,‏ وَلَكِنْ لَيْسَ مُرَادًا فِي كَلَامِ النَّاظِمِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ سِنِّ التَّكْلِيفِ ‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى حَسَنًا يَلْعَبُ مَعَ صَبْوَةٍ فِي السِّكَّةِ ‏,‏ وَالصَّبْوَةُ وَالصِّبْيَةُ جَمْعُ صَبِيٍّ ‏.‏

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ يَلْعَبُونَ أَكْبَرَ مِنْ الَّذِينَ يَرْضَعُونَ ‏(‏كُلَّ‏)‏ فِعْلٍ وَقَوْلٍ ‏(‏مُحَرَّمٍ‏)‏ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفَاعِلُ آثِمًا ‏,‏ فَإِنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ لَا إثْمَ عَلَيْهِ ‏,‏ وَإِنَّمَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ‏(‏لِ‏)‏ أَجْلِ ‏(‏تَأْدِيبِهِمْ‏)‏ وَزَجْرِهِمْ عَنْ مُلَابَسَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ‏.‏

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الصِّبْيَانِ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا ‏(‏وَ‏)‏ لِأَجْلِ ‏(‏الْعِلْمِ فِي الشَّرْعِ‏)‏ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ‏.‏

وَالشَّرِيعَةُ الدِّينُ وَهُوَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ ‏,‏ وَمِثْلُهُ الشِّرْعَةُ بِالْكَسْرِ ‏,‏ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِظُهُورِهِ وَوُضُوحِهِ ‏,‏ وَطَرِيقٌ شَارِعٌ‏:‏ أَيْ مَسْلُوكٌ ‏,‏ وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ الدِّينَ أَوْضَحَهُ وَبَيَّنَهُ ‏,‏ وَالشَّرِيعَةُ مَوْرِدُ الْمَاءِ ‏.‏

فَالْمُرَادُ بِالشَّرْعِ هُنَا الْمَشْرُوعُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ فَيُسْتَحَبُّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ يَعْنِي لِتَأْدِيبِهِمْ وَلِلْعِلْمِ أَنَّ هَذَا فِي الشَّرْعِ ‏(‏با‏)‏ لفعل ‏(‏الرَّدِي‏)‏ أَيْ الْقَبِيحُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ وَلَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ ‏,‏ فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ وَقَرَّ قُبْحُهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوهُ ‏.‏

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَجَّاوِيُّ رحمه الله تعالى بِأَنَّ إنْكَارَ ذَلِكَ عَلَى أُولَئِكَ مُسْتَحَبٌّ وَلَفْظُهُ‏:‏ وَيُسْتَحَبُّ الْإِنْكَارُ عَلَى الْأَوْلَادِ الَّذِينَ دُونَ الْبُلُوغِ ‏,‏ سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا تَأْدِيبًا لَهُمْ وَتَعْلِيمًا ‏.‏

قَالَ الْأَصْحَابُ‏:‏ لَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ إلَّا تَأْدِيبًا لَهُ وَزَجْرًا ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْإِنْكَارَ وَاجِبٌ كَمَا قَدَّمْنَا ‏,‏ فَإِنَّ قَوْلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ خَمْرَهُ وَيَمْنَعَهُ وَكَذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الزِّنَا ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ كَمَا لَا يَخْفَى ‏.‏

وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَظْهَرُ حَيْثُ تَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ ‏.‏

قَالَ ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ كَانُوا يَقُولُونَ أَكْرِمْ وَلَدَك وَأَحْسِنْ أَدَبَهُ ‏.‏

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ التَّعَلُّمُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ ‏.‏

وَقَالَ لُقْمَانُ‏:‏ ضَرْبُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ كَمَطَرِ السَّمَاءِ لِلزَّرْعِ ‏.‏

وَكَانَ يُقَالُ‏:‏ الْأَدَبُ مِنْ الْآبَاءِ ‏,‏ وَالصَّلَاحُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ‏.‏

وَكَانَ يُقَالُ‏:‏ مَنْ أَدَّبَ ابْنَهُ صَغِيرًا قَرَّتْ عَيْنُهُ بِهِ كَبِيرًا ‏.‏

‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ قَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْفِقْهِ بِأَنَّ عَلَى وَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ ‏,‏ وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَرْبُهُ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ ‏,‏ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْوُجُوبِ ‏.‏

وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ ‏,‏ أَوْ يُقِيمَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ ‏.‏

وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا أَيْضًا‏:‏ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ تَعْلِيمُ الِابْنِ مَا يَحْتَاجُهُ لِدِينِهِ ‏,‏ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ‏"‏ إنَّ لِوَلَدِك عَلَيْك حَقًّا ‏"‏ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي مِنْ أَئِمَّتِنَا‏:‏ وَمِمَّا يَجِبُ إنْكَارُهُ تَرْكُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ لِمَا يَجِبُ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ ‏,‏ نَحْوُ مَا تَعَلَّقَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَبِمَعْرِفَةِ الصَّلَاةِ وَجُمْلَةِ الشَّرَائِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَرَائِضِ وَيَلْزَمُ النِّسَاءَ الْخُرُوجُ لِتَعَلُّمِ ذَلِكَ ‏.‏

وَأَوْجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمُعَلِّمَ وَالْمُتَعَلِّمَ لِذَلِكَ وَيَرْزُقَهُمَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ‏,‏ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قِوَامًا لِلدِّينِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْجِهَادِ ‏,‏ لِأَنَّهُ رُبَّمَا نَشَأَ الْوَلَدُ عَلَى مَذْهَبٍ فَاسِدٍ فَيَتَعَذَّرُ زَوَالُهُ مِنْ قَلْبِهِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَقَدْ نَصَّ فُقَهَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ تَمْكِينُ الصَّغِيرِ مِنْ لُبْسِ ثَوْبٍ حَرِيرٍ وَنَحْوِهِ ‏,‏ وَكَذَا مِنْ فِعْلِ كُلِّ مُحَرَّمٍ ‏.‏

فَعَلَى كُلِّ حَالٍ مَتَى تَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لَا أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ كَمَا قَالَ الْحَجَّاوِيُّ ‏,‏ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

وَإِلَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَشَارَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى بِقَوْلِهِ‏:‏

 مطلب فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الصِّبْيَانِ لِتَأْدِيبِهِمْ

وَأَنْكِرْ عَلَى الصِّبْيَانِ كُلَّ مُحَرَّمٍ لِتَأْدِيبِهِمْ وَالْعِلْمِ فِي الشَّرْعِ لَرَدِي ‏(‏وَأَنْكِرْ‏)‏ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ الْمُتَّبِعُ الْأَوَامِرَ الشَّرْعِيَّةَ ‏,‏ الْعَالِمُ بِأَحْكَامِهَا الْفَرْعِيَّةِ ‏.‏

‏(‏عَلَى الصِّبْيَانِ‏)‏ جَمْعُ صَبِيٍّ هُوَ الصَّغِيرُ أَعْنِي الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ التَّكْلِيفِ ‏,‏ هَذَا مُرَادُهُ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ الصَّبِيُّ مَنْ لَمْ يُفْطَمْ ‏.‏

وَقَالَ فِي كِتَابِ كِفَايَةِ الْمُتَحَفِّظِ‏:‏ الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَهُوَ جَنِينٌ فَإِذَا وُلِدَ يُسَمَّى صَبِيًّا ‏,‏ فَإِذَا فُطِمَ يُسَمَّى غُلَامًا إلَى سَبْعِ سِنِينَ ‏,‏ ثُمَّ يَصِيرُ يَافِعًا إلَى عَشْرٍ ‏,‏ ثُمَّ حُزُورًا إلَى خَمْسَةَ عَشْرَ ‏,‏ ثُمَّ يَصِيرُ قَمْدًا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ ‏.‏

فَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصَّبِيَّ مَنْ لَمْ يُفْطَمْ بَعْدُ ‏,‏ وَلَكِنْ لَيْسَ مُرَادًا فِي كَلَامِ النَّاظِمِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ سِنِّ التَّكْلِيفِ ‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى حَسَنًا يَلْعَبُ مَعَ صَبْوَةٍ فِي السِّكَّةِ ‏,‏ وَالصَّبْوَةُ وَالصِّبْيَةُ جَمْعُ صَبِيٍّ ‏.‏

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ يَلْعَبُونَ أَكْبَرَ مِنْ الَّذِينَ يَرْضَعُونَ ‏(‏كُلَّ‏)‏ فِعْلٍ وَقَوْلٍ ‏(‏مُحَرَّمٍ‏)‏ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفَاعِلُ آثِمًا ‏,‏ فَإِنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ لَا إثْمَ عَلَيْهِ ‏,‏ وَإِنَّمَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ‏(‏لِ‏)‏ أَجْلِ ‏(‏تَأْدِيبِهِمْ‏)‏ وَزَجْرِهِمْ عَنْ مُلَابَسَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ‏.‏

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الصِّبْيَانِ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا ‏(‏وَ‏)‏ لِأَجْلِ ‏(‏الْعِلْمِ فِي الشَّرْعِ‏)‏ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ‏.‏

وَالشَّرِيعَةُ الدِّينُ وَهُوَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ ‏,‏ وَمِثْلُهُ الشِّرْعَةُ بِالْكَسْرِ ‏,‏ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِظُهُورِهِ وَوُضُوحِهِ ‏,‏ وَطَرِيقٌ شَارِعٌ‏:‏ أَيْ مَسْلُوكٌ ‏,‏ وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ الدِّينَ أَوْضَحَهُ وَبَيَّنَهُ ‏,‏ وَالشَّرِيعَةُ مَوْرِدُ الْمَاءِ ‏.‏

فَالْمُرَادُ بِالشَّرْعِ هُنَا الْمَشْرُوعُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ فَيُسْتَحَبُّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ يَعْنِي لِتَأْدِيبِهِمْ وَلِلْعِلْمِ أَنَّ هَذَا فِي الشَّرْعِ ‏(‏با‏)‏ لفعل ‏(‏الرَّدِي‏)‏ أَيْ الْقَبِيحُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ وَلَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ ‏,‏ فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ وَقَرَّ قُبْحُهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوهُ ‏.‏

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَجَّاوِيُّ رحمه الله تعالى بِأَنَّ إنْكَارَ ذَلِكَ عَلَى أُولَئِكَ مُسْتَحَبٌّ وَلَفْظُهُ‏:‏ وَيُسْتَحَبُّ الْإِنْكَارُ عَلَى الْأَوْلَادِ الَّذِينَ دُونَ الْبُلُوغِ ‏,‏ سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا تَأْدِيبًا لَهُمْ وَتَعْلِيمًا ‏.‏

قَالَ الْأَصْحَابُ‏:‏ لَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ إلَّا تَأْدِيبًا لَهُ وَزَجْرًا ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْإِنْكَارَ وَاجِبٌ كَمَا قَدَّمْنَا ‏,‏ فَإِنَّ قَوْلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ خَمْرَهُ وَيَمْنَعَهُ وَكَذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الزِّنَا ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ كَمَا لَا يَخْفَى ‏.‏

وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَظْهَرُ حَيْثُ تَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ ‏.‏

قَالَ ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ كَانُوا يَقُولُونَ أَكْرِمْ وَلَدَك وَأَحْسِنْ أَدَبَهُ ‏.‏

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ التَّعَلُّمُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ ‏.‏

وَقَالَ لُقْمَانُ‏:‏ ضَرْبُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ كَمَطَرِ السَّمَاءِ لِلزَّرْعِ ‏.‏

وَكَانَ يُقَالُ‏:‏ الْأَدَبُ مِنْ الْآبَاءِ ‏,‏ وَالصَّلَاحُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ‏.‏

وَكَانَ يُقَالُ‏:‏ مَنْ أَدَّبَ ابْنَهُ صَغِيرًا قَرَّتْ عَيْنُهُ بِهِ كَبِيرًا ‏.‏

‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ قَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْفِقْهِ بِأَنَّ عَلَى وَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ ‏,‏ وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَرْبُهُ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ ‏,‏ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْوُجُوبِ ‏.‏

وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ ‏,‏ أَوْ يُقِيمَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ ‏.‏

وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا أَيْضًا‏:‏ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ تَعْلِيمُ الِابْنِ مَا يَحْتَاجُهُ لِدِينِهِ ‏,‏ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ‏"‏ إنَّ لِوَلَدِك عَلَيْك حَقًّا ‏"‏ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي مِنْ أَئِمَّتِنَا‏:‏ وَمِمَّا يَجِبُ إنْكَارُهُ تَرْكُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ لِمَا يَجِبُ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ ‏,‏ نَحْوُ مَا تَعَلَّقَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَبِمَعْرِفَةِ الصَّلَاةِ وَجُمْلَةِ الشَّرَائِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَرَائِضِ وَيَلْزَمُ النِّسَاءَ الْخُرُوجُ لِتَعَلُّمِ ذَلِكَ ‏.‏

وَأَوْجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمُعَلِّمَ وَالْمُتَعَلِّمَ لِذَلِكَ وَيَرْزُقَهُمَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ‏,‏ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قِوَامًا لِلدِّينِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْجِهَادِ ‏,‏ لِأَنَّهُ رُبَّمَا نَشَأَ الْوَلَدُ عَلَى مَذْهَبٍ فَاسِدٍ فَيَتَعَذَّرُ زَوَالُهُ مِنْ قَلْبِهِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَقَدْ نَصَّ فُقَهَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ تَمْكِينُ الصَّغِيرِ مِنْ لُبْسِ ثَوْبٍ حَرِيرٍ وَنَحْوِهِ ‏,‏ وَكَذَا مِنْ فِعْلِ كُلِّ مُحَرَّمٍ ‏.‏

فَعَلَى كُلِّ حَالٍ مَتَى تَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لَا أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ كَمَا قَالَ الْحَجَّاوِيُّ ‏,‏ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ وُجُوبَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ‏,‏ وَأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ ‏,‏ وَتَارَةً فَرْضَ كِفَايَةٍ ‏,‏ وَبَيَّنَ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَمَا يُنْكِرُ شَرْعًا وَمَنْ يُنْكِرُ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ ‏,‏ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِكَيْفِيَّةِ الْإِنْكَارِ فَقَالَ‏:‏

 مطلب يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَبْدَأَ بِالرِّفْقِ وَبِالْأَسْهَلِ

ابْدَأْ ثُمَّ زِدْ قَدْرَ حَاجَةٍ فَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِالنَّافِذِ الْأَمْرِ فَاصْدُدْ ‏(‏وَبِالْأَسْهَلِ‏)‏ أَيْ الْأَلْيَنِ مِنْ السَّهْلِ ضِدُّ الْحَزَنِ ‏(‏ابْدَأْ‏)‏ أَيُّهَا الْآمِرُ النَّاهِي لِتَفُوزَ بِفَضِيلَةِ مَا قُمْت بِهِ وَفَضِيلَةِ الِاتِّبَاعِ فِي سُهُولَةِ الْأَخْلَاقِ وَالِانْطِبَاعِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْفَعِلُ لِلرِّفْقِ مَا لَا يَنْفَعِلُ لِلْعُنْفِ ‏,‏ يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَبْدَأَ بِالرِّفْقِ وَلِينِ الْجَانِبِ ‏,‏ سَوَاءٌ كَانَ الْمُنْكَرُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ‏:‏ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ مُتَوَاضِعًا رَفِيقًا فِيمَا يَدْعُو إلَيْهِ ‏,‏ رَحِيمًا شَفِيقًا غَيْرَ فَظٍّ وَلَا غَلِيظَ الْقَلْبِ وَلَا مُتَعَنِّتٍ ‏,‏ دَيِّنًا نَزِهًا عَفِيفًا ذَا رَأْيٍ وَحَزَامَةٍ وَشِدَّةٍ فِي الدِّينِ ‏,‏ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ فِي قَوْلِهِ الْفَتَى الْجَلْدِ ‏,‏ قَاصِدًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِقَامَةَ دِينِهِ وَنُصْرَةَ شَرْعِهِ وَامْتِثَالَ أَمْرِهِ ‏,‏ وَإِحْيَاءَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ بِلَا رِيَاءٍ وَلَا مُنَافَقَةٍ وَلَا مُدَاهَنَةٍ ‏,‏ غَيْرَ مُنَافِسٍ وَلَا مُفَاخِرٍ ‏,‏ وَلَا مِمَّنْ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ وَيُسَنُّ لَهُ الْعَمَلُ بِالنَّوَافِلِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَالرِّفْقُ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ عِنْدَ إنْكَارِهِ ‏,‏ وَالتَّثَبُّتُ وَالْمُسَامَحَةُ بِالْهَفْوَةِ عِنْدَ أَوَّلِ مَرَّةٍ ‏.‏

قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه‏:‏ النَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَى مُدَارَاةِ وَرِفْقِ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ بِلَا غِلْظَةٍ إلَّا رَجُلٌ مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْك نَهْيُهُ وَإِعْلَامُهُ لِأَنَّهُ يُقَالُ‏:‏ لَيْسَ لِفَاسِقٍ حُرْمَةٌ ‏,‏ فَهَؤُلَاءِ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ ‏.‏

وَسَأَلَهُ مُهَنَّا هَلْ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبًا بِالْيَدِ إذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ‏؟‏ قَالَ الرِّفْقُ ‏.‏

وَنَقَلَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ‏,‏ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ مَهْلًا رَحِمَكُمْ اللَّهُ ‏.‏

وَنَقَلَ مُهَنَّا‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ بِالرِّفْقِ وَالْخُضُوعِ ‏.‏

قُلْت كَيْفَ‏؟‏ قَالَ إنْ أَسْمَعُوهُ مَا يَكْرَهُ لَا يَغْضَبُ فَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَصِرَ لِنَفْسِهِ ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي‏:‏ وَيَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَسْهَلِ ‏,‏ وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ كَالنَّاظِمِ ‏,‏ وَيَبْدَأُ بِإِسْقَاطٍ وَيَجِبُ وَيَعْمَلُ بِظَنِّهِ فِي ذَلِكَ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ إنْ لَمْ يُزَلْ الْمُنْكَرُ الْوَاجِبُ إنْكَارُهُ ‏(‏زِدْ‏)‏ عَلَى الْأَسْهَلِ بِأَنْ تُغْلِظَ لَهُ الْقَوْلَ ‏(‏قَدْرَ‏)‏ أَيْ بِقَدْرِ ‏(‏حَاجَةِ‏)‏ إزَالَتِهِ ‏,‏ فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ أَغْلِظْ فِيهِ بِالزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ ‏,‏ فَإِنْ زَالَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ إقَامَةُ الدِّينِ ‏,‏ وَنُصْرَةُ الشَّرْعِ الْمُبِينِ ‏,‏ وَزَوَالُ الْمُنْكَرِ وَالشَّيْنِ ‏,‏ وَإِحْيَاءُ سُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏فَإِنْ لَمْ يَزُلْ‏)‏ الْمُنْكَرُ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَاسْتَعِنْ عَلَى إزَالَتِهِ ‏(‏بِالنَّافِذِ‏)‏ أَيْ الْمَاضِي ‏(‏الْأَمْرَ‏)‏ يُقَالُ أَنْفَذَ الْأَمْرَ قَضَاهُ وَهُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ‏.‏

وَالنَّافِذُ الْمَاضِي فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ كَالنُّفُوذِ وَالنَّفَاذِ وَالْمُطَاعِ مِنْ الْأَمْرِ ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏فاصدد‏)‏ أَيْ فَأَعْرِضْ وَأَصْرِفْ ‏.‏

فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ فَأَعْرِضْ عَنْ ذَلِكَ وَارْفَعْهُ لِنَافِذِ الْأَمْرِ وَهُوَ بَعِيدٌ ‏,‏ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ أَرَادَ فَاصْدُدْهُ أَيْ امْنَعْهُ وَاصْرِفْهُ بِنَافِذِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ‏:‏ فَإِنْ زَالَ وَإِلَّا رَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ابْتِدَاءً إنْ أَمِنَ حَيْفَهُ فِيهِ ‏,‏ لَكِنْ يُكْرَهُ وَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ شَرْطَ رَفْعِهِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمَنَ حَيْفَهُ فِيهِ ‏,‏ وَيَكُونَ قَصْدُهُ فِي ذَلِكَ النُّصْحَ لَا الْغَلَبَةَ ‏.‏

وَفِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ يَفْعَلُ فِيهِ يَعْنِي السُّلْطَانَ مَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ لَا غَيْرُ ‏,‏ وَظَاهِرُهُ يَحْرُمُ إنْ فَعَلَ بِهِ مُحَرَّمًا مِنْ أَخْذِ مَالٍ وَنَحْوِهِ ‏,‏ وَيُكْرَهُ إنْ فَعَلَ بِهِ مَكْرُوهًا ‏.‏

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ‏:‏ وَيَحْرُمُ أَخْذُ مَالٍ عَلَى حَدٍّ أَوْ مُنْكَرٍ اُرْتُكِبَ ‏.‏

وَنَقَلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ أَنَّ تَعْطِيلَ الْحَقِّ بِمَالٍ يُؤْخَذُ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ ‏,‏ وَلِأَنَّهُ مَالٌ سُحْتٌ خَبِيثٌ ‏,‏ وَلَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ وَهُوَ الْوَاسِطَةُ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ رَفْعِهِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ بِلَا تَفْصِيلٍ ‏.‏

ثُمَّ قَالَ

 مطلب فِي كَسْرِ الدُّفِّ

وَلَا غُرْمَ فِي دُفِّ الصُّنُوجِ كَسَرْته وَلَا صُوَرٍ أَيْضًا وَلَا آلَةِ الدَّدِ ‏(‏وَلَا غُرْمَ‏)‏ أَيْ لَا ضَمَانَ ‏(‏فِي دُفٍّ‏)‏ بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتُفْتَحُ وَجَمْعُهُ دُفُوفٌ وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الضَّمَانُ فِي الدُّفِّ ذِي ‏(‏الصُّنُوجِ‏)‏ جَمْعُ صَنْجٍ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنْ صُفْرٍ يُضْرَبُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

فَإِذَا كَانَ الدُّفُّ ذَا صُنُوجٍ فَلَا غُرْمَ عَلَيْك إذَا ‏(‏كَسَرْته‏)‏ لِعَدَمِ إبَاحَتِهِ ‏,‏ وَمِثْلُ الصُّنُوجِ الْحَلْق وَالْجَلَاجِلُ ‏,‏ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى عَدَمِ ضَمَانِهِ ‏.‏

وَأَمَّا الدُّفُّ الْعَارِي عَنْ ذَلِكَ فَيُبَاحُ لِلنِّسَاءِ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ ‏,‏ لِأَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ إنْ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَالِمًا ضَرَبَتْ عَلَى رَأْسِهِ بِالدُّفِّ ‏,‏ فَقَالَ‏:‏ أَوْفِي بِنَذْرِك ‏.‏

وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ لِأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِالنِّسَاءِ ‏.‏

وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَيُسَنُّ الضَّرْبُ فِيهِ لِلنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِي النِّكَاحِ ‏"‏ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ غَيْرَ أَبِي دَاوُدَ ‏.‏

وَلَا يُكْرَهُ لِقُدُومِ غَائِبٍ وَخِتَانٍ وَنَحْوِهِمَا ‏,‏ بَلْ يُسَنُّ ‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي‏:‏ يُكْرَهُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ ‏.‏

‏(‏وَلَا‏)‏ غُرْمَ فِي ‏(‏صُوَرٍ‏)‏ جَمْعُ صُورَةٍ ‏(‏أَيْضًا‏)‏ مَصْدَرُ آضَ إذَا رَجَعَ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ الْأَيْضُ الْعَوْدُ إلَى الشَّيْءِ وَصَيْرُورَةُ الشَّيْءِ غَيْرَهُ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ وَالرُّجُوعُ ‏,‏ وَآضَ كَذَا صَارَ ‏,‏ وَفَعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا ‏,‏ إذَا فَعَلَهُ مُعَاوِدًا ‏.‏

فَمَعْنَى قَوْلِ النَّاظِمِ أَيْضًا يَعْنِي الْمُعَاوَدَةَ إلَى عَدَمِ الضَّمَانِ فِي كَسْرِ الصُّورَةِ كَمَا لَا ضَمَانَ فِي كَسْرِ الدُّفِّ المصَنَّج ‏.‏

 مطلب فِي عِظَمِ وِزْرِ الْمُصَوِّرِينَ وَكَسْرِ الصُّورَةِ

وَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ مِنْ النَّبِيِّ الْمَجِيدِ صلى الله عليه وسلم فِي عِظَمِ وِزْرِ الْمُصَوِّرِينَ وَتَهْوِيلِ ذَلِكَ ‏.‏

فَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها‏:‏ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْت سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ ‏,‏ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلَوَّنَ وَجْهُهُ وَقَالَ ‏"‏ يَا عَائِشَةُ ‏,‏ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ ‏"‏ قَالَتْ‏:‏ فَقَطَعْنَاهُ فَجَعَلْنَا مِنْهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ ‏.‏

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ السَّهْوَةُ - بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ - الطَّاقُ فِي الْحَائِطِ يُوضَعُ فِيهِ الشَّيْءُ ‏.‏

وَقِيلَ الصُّفَّةُ ‏,‏ وَقِيلَ الْمَخْدَعُ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ ‏,‏ وَقِيلَ بَيْتٌ صَغِيرٌ كَالْخِزَانَةِ الصَّغِيرَةِ ‏.‏

وَالْقِرَامُ - بِكَسْرِ الْقَافِ - هِيَ السِّتْرُ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَتْ‏:‏ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ وَقَالَ ‏"‏ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُمَا ‏"‏ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً - وَهِيَ بِضَمِّ النُّونِ وَالرَّاءِ أَيْضًا ‏;‏ وَقَدْ تُفْتَحُ الرَّاءُ وَبِكَسْرِهَا - يَعْنِي مِخَدَّةً فِيهَا تَصَاوِيرُ ‏,‏ فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ ‏,‏ فَعَرَفَتْ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ ‏.‏

قَالَتْ‏:‏ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ‏,‏ مَاذَا أَذْنَبْت‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ‏؟‏ فَقُلْت اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَ ‏(‏إنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلهُ الْمَلَائِكَةُ‏)‏ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ إنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا ‏,‏ فَقَالَ لَهُ اُدْنُ مِنِّي فَدَنَا ‏,‏ ثُمَّ قَالَ لَهُ اُدْنُ مِنِّي ‏,‏ فَدَنَا ‏,‏ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ أُنْبِئُك بِمَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ ‏,‏ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَيُعَذِّبَهُ فِي جَهَنَّمَ ‏"‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَإِنْ كُنْت لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعْ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ ‏.‏

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ حَيَّانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ‏:‏ قَالَ لِي عَلِيٌّ رضي الله عنه ‏"‏ أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ أَنْ لَا تَدَعَ صُورَةً إلَّا طَمَسْتهَا ‏,‏ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ‏"‏ لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ ‏"‏ وَفِي مُسْلِمٍ ‏"‏ لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا تَمَاثِيلُ ‏"‏ وَالْمُرَادُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ دُونَ الْحَافِظِينَ وَغَيْرِهِمَا ‏,‏ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ وَضَّاحٍ وَالْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ ‏.‏

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ‏:‏ وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ اللَّهُ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ وَيُسْمِعَهُمْ قَوْلَهُ وَهُمْ بِبَابِ الدَّارِ الَّذِي هُوَ فِيهَا مَثَلًا كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ ‏.‏

وَالْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ الْبَيْتَ الَّتِي هِيَ فِيهِ مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الرُّوحُ مَا لَمْ يُقْطَعْ رَأْسُهُ أَوْ لَمْ يُمْتَهَنْ ‏,‏ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ ‏.‏

وَمِثْلُهُ الْكَلْبُ ‏,‏ يَعْنِي حَيْثُ لَمْ يُبَحْ اقْتِنَاؤُهُ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ ‏.‏

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ إنِّي وُكِّلْت بِثَلَاثَةٍ‏:‏ بِمَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ‏,‏ وَبِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏,‏ وَبِالْمُصَوِّرِينَ ‏"‏ ‏.‏

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ‏:‏ الْعُنُقُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ أَيْ طَائِفَةٌ وَجَانِبٌ مِنْ النَّارِ ‏.‏

إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَإِطْلَاقُ النَّاظِمِ رحمه الله تعالى مَخْصُوصٌ بِصُوَرِ الْحَيَوَانِ دُونَ الشَّجَرِ وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ ‏,‏ وَيَعْنِي دُونَ مَا لَيْسَ هُوَ عَلَى هَيْئَةِ ذِي رُوحٍ وَمَا لَا تَبْقَى مَعَهُ حَيَاةٌ كَإِبَانَةِ رَأْسِ الصُّورَةِ ‏.‏

نَعَمْ لَوْ فَصَلَهَا بِنَحْوِ خَطٍّ مِمَّا يَزِيدُهَا رَوْنَقًا لَمْ تَزُلْ الْحُرْمَةُ ‏.‏

وَعُمُومُ نِظَامِهِ رحمه الله تعالى يَتَنَاوَلُ الصُّوَرَ الَّتِي عَلَى نَحْوِ الثِّيَابِ مِنْ السُّتُورِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالصُّوَرِ الَّتِي عَلَى نَحْوِ الْحِيطَانِ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَتْلَفَهَا بِخِلَافِ الصُّوَرِ الْمُصَوَّرَةِ عَلَى السُّتُورِ وَالثِّيَابِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْرِيقُهَا وَإِنْ كَانَ تَصْوِيرُهَا حَرَامًا ‏.‏

قَالَ الْمَرُّوذِيُّ‏:‏ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه‏:‏ فَالرَّجُلُ يُدْعَى فَيَرَى سِتْرًا عَلَيْهِ تَصَاوِيرُ ‏,‏ قَالَ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ ‏.‏

قُلْت قَدْ نَظَرْت إلَيْهِ كَيْفَ أَصْنَعُ أَهْتِكُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا يُحْرَقُ شَيْءُ النَّاسِ ‏,‏ وَلَكِنْ إنْ أَمْكَنَك خَلْعُهُ خَلَعْته ‏.‏

قُلْت فَالرَّجُلُ يَكْتَرِي الْبَيْتَ فِيهِ تَصَاوِيرُ تَرَى أَنْ أَحُكَّ الرَّأْسَ‏؟‏ قَالَ نَعَمْ ‏,‏ وَهَذَا الْحَكُّ إذَا كَانَ فِي الْحَائِطِ ‏,‏ وَأَمَّا فِي سِتْرٍ وَثِيَابٍ فَلَا يُتْلِفُهَا ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ‏:‏ وَسُئِلَ هَلْ يَجُوزُ تَخْرِيقُ الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَرُ‏؟‏ قَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَفَارِشَ بِخِلَافِ غَيْرِهَا ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا اتَّخَذَتْ ذَاكَ السِّتْرَ مِخَدَّةً أَوْ مِخَدَّتَيْنِ ‏.‏

فَإِذَا كَانَ عَلَى نَحْوِ بِسَاطٍ يُفْرَشُ وَيُدَاسُ ‏,‏ أَوْ مَخَادٍّ تُوضَعُ وَيُجْلَسُ عَلَيْهَا فَلَا حُرْمَةَ ‏.‏

نَعَمْ التَّصْوِيرُ حَرَامٌ وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ ‏.‏

وَتَأْتِي لَهُ تَتِمَّةٌ فِي آدَابِ اللِّبَاسِ ‏,‏ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي إتْلَافِ آلَةِ التَّنْجِيمِ وَالسِّحْرِ

وَآلَةِ تَنْجِيمٍ وَسِحْرٍ وَنَحْوِهِ وَكُتُبٍ حَوَتْ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ اُقْدُدْ ‏(‏وَ‏)‏ لَا غُرْمَ أَيْضًا فِي إتْلَافِ ‏(‏آلَةِ تَنْجِيمٍ‏)‏ لِأَنَّهُ عِلْمٌ بَاطِلٌ وَحَدْسٌ عَاطِلٌ مَبْنَاهُ عَلَى الْحَدْسِ وَالتَّخْمِينِ لَا عَلَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ لَمْ تَرِدْ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْغَرَّاءُ ‏,‏ وَإِنَّمَا يَلْهَجُ بِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ وَلَا نَصِيبَ مِنْ الدِّينِ بَحْرًا وَبَرًّا ‏.‏

وَقَدْ أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَنَصُّوا عَلَى بُطْلَانِهِ وَحُرْمَتِهِ ‏,‏ فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ الْحَرَامِ ‏.‏

وَقَدْ أَبْطَلَهُ بِالنَّقْضِ وَالْبُرْهَانِ عَيْنُ الْأَعْيَانِ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي ‏(‏مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ‏)‏ فَأَتَى فِيهِ بِمَا يَكْفِي وَيَشْفِي وَزِيَادَةٍ ‏,‏ وَأَنْشَدَ قَصِيدَةَ أَبِي تَمَّامٍ فِي أَمْرِ عَمُّورِيَّةَ وَالْمُعْتَصِمُ ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَيْنَ الرِّوَايَةُ أَمْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا صَاغُوهُ مِنْ زُخْرُفٍ مِنْهَا وَمِنْ كَذِبِ تَخَرُّصًا وَأَحَادِيثًا مُلَفَّقَةً لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إذَا عُدَّتْ وَلَا غَرَبِ وَأَنْشَدَ قَصِيدَةَ الْفَاضِلِ الْعَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَحْمُودٍ الْحُسَيْنِيِّ لَمَّا قَضَى مُنَجِّمُو زَمَانِهِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ لَمَّا نَزَلَ الْإِفْرَنْجُ عَلَى دِمْيَاطَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَغْلِبُوا عَلَى الْبِلَادِ فَيَتَمَلَّكُوا مَا بِأَرْضِ مِصْرَ مِنْ رِقَابِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُمْ لَا تَدُورُ عَلَيْهِمْ الدَّائِرَةُ إلَّا إذَا قَامَ قَائِمُ الزَّمَانِ ‏,‏ وَظَهَرَ بِرَايَاتِهِ الْخَافِقَةِ ذَلِكَ الْأَوَانُ ‏,‏ فَكَذَّبَ اللَّهُ ظُنُونَهُمْ وَأَتَى مِنْ لُطْفِهِ الْخَفِيِّ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابٍ ‏,‏ وَرَدَّ الفرنج ‏,‏ بَعْدَ الْقَتْلِ الذَّرِيعِ فِيهِمْ ‏,‏ وَالْأَسْرِ عَلَى الْأَعْقَابِ ‏.‏

وَكَانَ الْمُنَجِّمُونَ قَدْ أَجْمَعُوا فِي أَمْرِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى نَحْوِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي شَأْنِ عَمُّورِيَّةَ مَعَ الْمُعْتَصَمِ ذِي السَّطْوَةِ الْبَارِعَةِ ‏.‏

فَمِمَّا أُنْشِدَ‏:‏ لَا يَنْبَغِي لَك فِي مَكْرُوهِ حَادِثَةٍ أَنْ تَبْتَغِي لَك فِي غَيْرِ الرِّضَا طَلَبَا لِلَّهِ فِي الْخَلْقِ تَدْبِيرٌ يَفُوقُ مَدَى أَسْرَارِ حِكْمَتِهِ أَحْكَامَ مَنْ حَسِبَا أَبْغِي النَّجَاةَ إذَا مَا ذُو النَّجَامَةِ فِي زُورٍ مِنْ الْقَوْلِ يَقْضِي كُلَّ مَا قَرُبَا إلَى أَنْ قَالَ‏:‏ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ خَالِقُنَا لَا غَيْرُهُ عَالِمٌ ‏,‏ عَجَمًا وَلَا عَرَبَا لَا شَيْءَ أَجْهَلَ مِمَّنْ يَدَّعِي ثِقَةً بِحَدْسِهِ وَيَرَى فِيمَا يَرَى رِيَبَا قَدْ يَجْهَلُ الْمَرْءُ مَا فِي بَيْتِهِ نَظَرًا فَكَيْفَ عَنْهُ بِمَا فِي غَيْبِهِ احْتَجَبَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ‏:‏ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ أَنَّ عَلِيًّا نَهَى عَنْ السَّفَرِ وَالْقَمَرُ فِي الْعَقْرَبِ ‏,‏ أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ فَبَاطِلٌ ‏.‏

وَالْمَشْهُورُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ خِلَافُهُ ‏,‏ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِحَرْبِ الْخَوَارِجِ اعْتَرَضَ مُنَجِّمٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَخْرُجَ ‏,‏ قَالَ لِأَيِّ شَيْءٍ‏؟‏ قَالَ إنَّ الْقَمَرَ فِي الْعَقْرَبِ ‏,‏ فَإِنْ خَرَجْت أُصِبْت وَهُزِمَ عَسْكَرُك ‏,‏ فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه‏:‏ مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُنَجِّمٌ ‏,‏ وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا لِعُمَرِ ‏,‏ فَأَخْرُجُ ثِقَةً بِاَللَّهِ وَتَكْذِيبًا لِقَوْلِك ‏,‏ فَمَا سَافَرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَفْرَةً أَبْرَكَ مِنْهَا ‏,‏ قَتَلَ الْخَوَارِجَ وَكَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ ‏,‏ وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فَائِزًا بِبِشَارَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ قَتَلَهُمْ حَيْثُ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَا ‏,‏ وَخَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوهُ ‏"‏ وَفِي لَفْظٍ ‏"‏ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ ‏"‏ ‏.‏

وَمِمَّا يُنْسَبُ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه قَوْلُهُ‏:‏ أَيَا عُلَمَا النُّجُومِ أَحَلْتُمُونَا عَلَى عِلْمٍ أَرَقَّ مِنْ الْهَبَاءِ كُنُوزُ الْأَرْضِ لَمْ تَصِلُوا إلَيْهَا فَكَيْفَ وَصَلْتُمُو عِلْمَ السَّمَاءِ قُلْت‏:‏ وَنَسَبَهُمَا صَلَاحُ الدِّينِ الصَّفْدِيُّ فِي كِتَابِهِ الْوَافِي بِالْوَفَيَاتِ إلَى الْإِمَامِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ بِلَفْظِ‏:‏ أَمُنْتَحِلِي النُّجُومَ أَحَلْتُمُونَا عَلَى عِلْمٍ أَرَقَّ مِنْ الْهَبَاءِ عُلُومُ الْأَرْضِ مَا أَحْكَمْتُمُوهَا فَكَيْفَ بِكُمْ إلَى عِلْمِ السَّمَاءِ وَمَا أَلْطَفَ قَوْلَ تَاجِ الدِّينِ الْكِنْدِيِّ رحمه الله تعالى‏:‏ دَعْ الْمُنَجِّمَ يَكْبُو فِي ضَلَالَتِهِ إنْ ادَّعَى عِلْمَ مَا يَجْرِي بِهِ الْفَلَكُ تَفَرَّدَ اللَّهُ بِالْعِلْمِ الْقَدِيمِ فَلَا الْ إنْسَانُ يُشْرِكُهُ فِيهِ وَلَا الْمَلَكُ أَعَدَّ لِلرِّزْقِ مِنْ إشْرَاكِهِ شَرَكًا وَبِئْسَ الْعِدَّتَانِ الشِّرْكُ وَالشَّرَكُ وَأَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَقْرِيرِ كَلَامِ الْمُنَجِّمِينَ وَرَدِّهِ ‏.‏

فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَنَصَحَهُ لِشَرِيعَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ‏.‏